مضت أربعة عشر عاماً، حمل خلالها ملايين السوريين وطنهم في قلوبهم وهم يعيشون في الغربة، يحاولون بناء حياة جديدة في الأردن. في البداية، ظنّوا أنها مجرد أيام، لكنها امتدت لسنوات طويلة، وراودهم السؤال مراراً: هل سنعود يوماً؟ هل سنرى وطننا مجدداً؟
بدأت الأمور تتغير، وعاد الأمل يضيء حياتهم من جديد. يستعد الآلاف لرحلة ظنّوها يوماً مستحيلة. عائلات تحزم أمتعتها، تودّع أحبّاءها بكلمات مثقلة بالمشاعر، وتتهيأ لخوض طريق لم يكن سوى حلم… طريق العودة إلى الوطن.
لكن، ماذا يعني الوطن بعد كل هذه السنوات؟ ماذا يأملون أن يجدوا؟ وماذا يتركون خلفهم؟
"أفتقد أمي أكثر من أي شيء آخر" يقول فارس أبو حسيني، 52 عاماً، من درعا
عودة فارس إلى سوريا ليست مجرد عودة إلى مكان، بل هي لقاء مع الذكريات والأشخاص الذين تركهم وراءه. منذ أن غادر درعا عام 2012، أمضى 13 عاماً في الأردن، حيث كبر أبناؤه وأحفاده في مخيم الزعتري.
فارس، خبير كهربائي ، قضى وقته في المخيم كمتطوع مع المنظمات الإنسانية، ومع المفوضية وذلك لتحسين إمدادات وخدمات الكهرباء في المخيم. الآن، يشعر أن مهاراته باتت مطلوبة في مكان آخر.
"الخبرات التي اكتسبتها في الزعتري سترافقني لإعادة بناء سوريا". يقول فارس بإصرار
ومع ذلك، فإن عدم اليقين بشأن المستقبل يثقل كاهله. "لا أعرف ماذا أنتظر عندما أعود. لا أعرف حتى إن كان منزلي ما زال موجودًا". لكن هناك أمراً واحداً مؤكداً – والدته تنتظره منذ 13 عاماً، وهو لا يستطيع الانتظار لرؤيتها مجدداً.
يضيف فارس بصوت تغمره المشاعر: "أفتقد أمي أكثر من أي شيء. لقد كانت تنتظرني كل يوم طيلة هذه السنوات".
"وطني، هذا كل شيء" يقول وليد قطيش، 40 عاماً، من حمص.
عانى وليد من صعوبات بشكل يومي في الأردن. كان العثور على عمل، ودفع الإيجار، وتأمين تعليم أطفاله، هي كمعركة مستمرة. لكن رغم التحديات، ظل يحمل هدفاً واحداً في قلبه: العودة إلى الوطن.
"سأعود إلى بلدي. وطني، هذا كل شيء." يقول بثقة "إن لم يكن الآن، فسيكون قريباً جداً". يضيف وليد
على الرغم من إدراكه أن سوريا لم تتعافَ تماماً بعد، حيث لا تزال الأسعار مرتفعة، والكهرباء غير مستقرة، والاستقرار هشّاً، إلا أن الأهم بالنسبة له هو أن سوريا حرة.
تجذبه ذكرياته هناك: "إنها أرضي، عائلتي، طفولتي. كل زاوية منها تحمل ذكرى في قلبي". لا تزال والدته وإخوته وأعمامه والكثير من أحبائه هناك، ينتظرونه. يضيف: "علينا العودة، إعادة إعمارها، وعيش حياة كريمة".
على الرغم من حبه واشتياقة إلى وطنه، إلا أن وليد لن ينسى أبداً لطف الأردن وحسن ضيافتها. يقول: "سوريا والأردن بلد واحد، وشعب واحد. لم نشعر يوماً بأننا غرباء".
"وصف سوريا كوصف الأم – يصعب التعبير عنه بالكلمات" يقول محمد قدور، 27 عاماً، من حمص.
بالنسبة لمحمد، العودة إلى سوريا ليست مجرد قرار مفاجئ، بل رحلة تحدث على مراحل. غادرت زوجته وابنه الصغير إلى حمص برفقة شقيقته وأطفالها، بينما بقي هو في الأردن بسبب التزامات عمله. ومع ذلك، يخطط للالتحاق بهم قريباً.
يقول بحزن: "جئت لوداع زوجتي وابني. أتمنى لو كنت أستطيع الرحيل معهما، لكن لديّ مسؤوليات هنا ويجب عليّ الاعتناء بهما أولاً". بالنسبة له، سوريا ليست مجرد وطن، بل إحساس عميق بالانتماء، وترابط لا تفصله المسافات ولا تضعفه السنوات.
يضيف بصوت مختنق: "وصف سوريا كوصف الأم – يصعب التعبير عنه بالكلمات. صعب، صعب للغاية".
"أخيراً، نعود إلى وطننا الحبيب" يقول محمد المصري، 67 عاماً، من درعا.
بعد 11 عاماً في مخيم الزعتري، حزم محمد المصري وعائلته أمتعتهم بعناية، استعدادًا لرحلة لطالما انتظروها – العودة إلى الوطن. تجمّع الأصدقاء والجيران حولهم، يودعونهم بمشاعر مختلطة من الفرح والحزن، وسط العناق والدعوات والوعود باللقاء مجدداً
يقول محمد، بصوت يغمره الشوق والحنين: "أخيراً، نعود إلى وطننا الحبيب وبيوتنا. لقد افتقدت وطني، وبيتي، وعائلتي كثيراً". شأنه شأن كثيرين آخرين، أمضى سنوات منتظراً رؤية أحبائه مجدداً. يضيف: "كان أبناء إخوتي صغاراً عندما غادرت، ربما لن أتعرف عليهم الآن".
ابنه هشام يغادر معه. فبعد أن قضى أكثر من عقد في الزعتري، استغل وقته في تطوير مهاراته عبر برامج التدريب والعمل مع المنظمات غير الحكومية. واليوم، يحمل معه هذه الخبرات، أملاً في أن تساعده في بناء مستقبله في سوريا.
يقول هشام وهو يودّع الأردن بمشاعر مختلطة: "أنا سعيد بالعودة إلى وطني، لكنني حزين أيضاً لمغادرة الزعتري. لقد احتضننا الأردن وجعلنا نشعر كأننا عائلة".
قرار العودة ليس سهلًا. لا يزال العديد من اللاجئين يعيشون حالة من عدم اليقين، متسائلين عما إذا كانت سوريا جاهزة لاستقبالهم. وفقاً لاستطلاع نوايا العودة الذي أجرته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن أكثر من ربع اللاجئين السوريين في الأردن ولبنان ومصر يخططون للعودة خلال الاثني عشر شهراً القادمين لإعادة بناء حياتهم.
وبينما يستعد الآلاف للعودة إلى ديارهم، لا يزال الكثيرون مترددين، غير متأكدين مما ينتظرهم في سوريا. تكشف نتائج الاستطلاع أن غالبية اللاجئين السوريين في الأردن لا يخططون للعودة خلال العام المقبل، ويفضلون البقاء. لكن هذا لا يعني أن احتياجاتهم يجب أن تُهمل.
فالعديد من اللاجئين يعيشون في ظروف قاسية، ويكافحون لتأمين احتياجاتهم الأساسية، من طعام ودواء وإيجار. لذلك، فإن الذين يختارون البقاء ما زالوا بحاجة إلى الدعم، ومن الضروري استمرار المساعدات والخدمات التي يعتمدون عليها.
ومهما كانت قراراتهم، سواء بالعودة أو البقاء، هناك شيء واحد واضح – الأمل بدأ ينبض في قلوبهم من جديد.
بالنسبة لفارس ومحمد ووليد وآلاف غيرهم، رحلة العودة ليست مجرد رجوع إلى مكان، بل استعادة لحياة، وإعادة وصل بالماضي، وإحياء لأحلام المستقبل. ومع أولى خطواتهم على أرض سوريا، يدركون شيئاً واحداً – مهما طال الغياب، الوطن سيبقى دائماً الوطن.