إغلاق sites icon close
Search form

البحث عن موقع البلد

نبذة عن البلد

موقع البلد على الإنترنت

بعد فيضانات درنة المروعة، الناجون يتمسكون بالأمل والعزيمة

قصص

بعد فيضانات درنة المروعة، الناجون يتمسكون بالأمل والعزيمة

عندما زارت مساعدة رئيس بعثة المفوضية في ليبيا الناجين في أعقاب الفيضانات المدمرة التي ضربت البلاد، سمعت قصصاً مروعة حول الخسائر في الأرواح، لكنها شهدت أيضاً شجاعةً وعزيمةً منقطعتي النظير تجسدتا في تضافر المجتمع الذي هبّ لتقديم المساعدة لمن طالتهم الأضرار.
29 سبتمبر 2023 متوفر أيضاً باللغات:
سيارات مدمرة جرفتها المياه إلى أرضٍ مقفرة بعد أن ضربت الفيضانات القاتلة مدينة درنة في شرق ليبيا.

سيارات مدمرة جرفتها المياه إلى أرضٍ مقفرة بعد أن ضربت الفيضانات القاتلة مدينة درنة في شرق ليبيا.

وصلت إلى درنة بعد بضعة أيامٍ من انهيار السدين اللذين اكتسحت مياههما معظم المدينة، وشعرت حينها وكأننا نمرّ في كابوس. كانت الصخور المنجرفة من الجبال المجاورة متناثرةً فوق الطرقات المدمرة.. بينما جرفت المياه مبانٍ بأكملها – سواء كانت منازل أم مدارس أم مستشفيات. لم يكن من السهل عليّ استيعاب حجم الكارثة ووقعها.

أتيت بصحبة زملائي من مفوضية اللاجئين وغيرها من منظمات الأمم المتحدة لتقييم أثر العاصفة دانيال من المنحى الإنساني، ولتنسيق تقديم مواد الإغاثة والدعم لعشرات آلاف المتضررين من الفيضانات. وبصفتي رئيسة فريق الحماية لدى المفوضية في ليبيا، كان دوري يتمثل في ضمان تمحور استجابتنا حول احتياجات الناجين والمجتمعات المضيفة لهم على المديين القصير والطويل.

قضينا أكثر من يومٍ على الطريق، وبعدما قطعنا ساعاتٍ عديدة ونحن نقود على طول ما تبقى من الطريق الرئيسي المؤدي إلى المدينة، ترجلنا من السيارات، وسرعان ما أثقلت أنفاسنا رائحة الموت التي لن تمحى من ذاكرتي. خلال 19 عاماً قضيتها في المجال الإنساني، عملت في العديد من البلدان التي اجتاحتها الصراعات والدمار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفي أوروبا والأمريكتين، لكن رغم كل تلك الخبرات التي اكتسبتها، لم أكن مهيئة للتعامل مع ذلك اليوم.

أثناء استعدادنا لتنظيم النواحي اللوجستية لجلب وتوزيع أطنانٍ من مواد الإغاثة، اعترانا الصمت في وجه الدمار الهائل المحيط بنا.. لكن حجم المأساة الحقيقي لم يتكشف لنا، إلا بعد أن سمعنا عن الخسائر في الأرواح والمعاناة التي لحقت بالسكان وهم يرون مدينتهم وقد جرفتها المياه مع ذويهم وبيوتهم.

رنا تسير مع إحدى الزملاء في المفوضية بالقرب من المباني المتضررة المليئة بالركام في درنة، ليبيا.

رنا تسير مع إحدى الزملاء في المفوضية بالقرب من المباني المتضررة المليئة بالركام في درنة، ليبيا.

وقد نزح أكثر من 40,000 شخصٍ في شمال شرق البلاد، بما في ذلك 30,000 في درنة وحدها. توسع المفوضية نطاق عملياتها من أجل الاستجابة إلى الاحتياجات المتنامية بسرعة لعشرات آلاف النازحين داخلياً واللاجئين وسواهم من الأشخاص المتضررين نتيجة السيول المدمرة. بدأت فرق عملنا في ليبيا بتوزيع المواد الإغاثية – مثل البطانيات وحزم أدوات الطهي والمصابيح الشمسية والأغطية البلاستيكية – بعد ثلاثة أيامٍ من وقوع الفيضانات؛ ما أن أتيحت إمكانية الوصول إلى المناطق الأكثر تضرراً في شرق البلاد.

قصص مؤلمة

بعد أيامٍ من عودتي إلى درنة، قمت بزيارةٍ إلى حي رأس المنقار في بنغازي، وهي المدينة التي تستضيف الآن مئات – إن لم يكن آلافاً – من العائلات التي خسرت كل شيء؛ من بيوتها وحاجياتها ومصادر رزقها، إلى الأسواء من ذلك كله – أفراد أسرها. كنا هناك لتقييم احتياجات العائلات التي تعيش مؤقتاً في مجمعٍ خاص الملكية تبرع به رجل أعمالٍ محلي لاستضافة النازحين من درنة.

التقيت هناك بناجين أشعرتني قصصهم المروعة بجزعٍ فاق عمقه المشاهد المروعة التي رأيتها في درنة قبل أيام. كنت هناك لأقدم تعازي الشخصية، ولأعرف منهم – من خلال الإصغاء إليهم – كيف يمكن للمفوضية وشركائها الاستجابة لاحتياجاتهم بالشكل الأمثل.

التقيت هناك بأمل* – والتي كانت تعيش مع بناتها الثلاث – فدوى (8 سنوات) ودنيا (6 سنوات) وابتسام (4 سنوات) – في منزل والدتها في درنة يوم وقعت الكارثة، وكانت شقيقتها في زيارةٍ للمنزل بصحبة اثنين من أولادها الخمسة أيضاً. 

وقالت أمل: "كان الجو عاصفاً تلك الليلة.. لكننا لم نعبأ بذلك.. نحو الساعة الحادية عشرة، وبعد أن نام الأطفال جميعاً، كنت أتصفح موقع فيسبوك عندما رأيت مشاركةً تقول بأن أحد السدود قد انهار. شعرت بالذعر وركضت إلى أمي وأختي، لكن أمي قالت بأن ذلك مستحيل، حيث أنّ انهيار السد كان ليكتسح المدينة بأسرها. فهدأت وخلدت إلى الفراش".

واستطردت قائلةً: "نهضت في الثانية صباحاً على ضجيج تصادم السيارات ببعضها البعض.. كان الاستيقاظ على مثل هذا الصوت غريباً لدرجة أنني حسبت بأنني أحلم، لكنني كنت أعلم بأنه لم يكن حلماً. نظرت مذعورةً إلى إحدى بناتي – والتي كانت تنام بجوار النافذة – وهرعت إليها لآخذها من هناك قبل أن تتعرض للأذى نتيجة ما كنت أعلم بأنه آتٍ باتجاهنا.. لكنني لم أتمكن من الوصول إليها. ما أن لمست يدي ذراعها، اندفعت مياه الفيضان إلى داخل المنزل وجرفتني إلى الأعلى – فكدت أصل إلى السقف. حاولت التمسك بالأثاث الطافي لأبقى بجوار ابنتي، لكن المياه كانت أقوى مني".

"بأعلى صوتي، ناديت أختي وأمي وبناتي لأطلب منهن التمسك بأي شيءٍ ممكن، علهن يسمعنني.. لكن الصوت الوحيد الذي أجابني هو صوت أختي. وفجأةً، انحسرت المياه وتدفقت عبر النوافذ باتجاه الوادي، جارفةً معها كل حاجياتنا ولم تترك سوى أغصان الشجر وحطام السيارات والمفروشات. في تلك اللحظة، حسبت بأنني سمعت صوت ابنتي فهرعت باتجاهها.. لكنني لم أسمعها بعد ذلك.. لا أعلم إن كانت هناك حقاً أم أني تخيلت ذلك".

لم تر أمل بناتها مجدداً.. هرعت إلى الخارج بحثاً عنهن لكنها لم تجدهن.. بل وجدت والدتها على الأرض وقد فارقت الحياة خارج المنزل.. وعثرت لاحقاً على اختها، لكن أولاد اختها – حالهم حال بناتها – ما زالوا في عداد المفقودين.

رغم كل تلك الخبرات التي اكتسبتها، لم أكن مهيئة للتعامل مع ذلك اليوم.

رنا قصيفي، مفوضية اللاجئين

 

رنا وزميلها يتابعان عملية تفريغ إمدادات الإغاثة للناجين في مطار بنينا الدولي في بنغازي.

رنا وزميلها يتابعان عملية تفريغ إمدادات الإغاثة للناجين في مطار بنينا الدولي في بنغازي.

قالت لي أمل: "لطالما كانت والدتي تكره البحر.. وكانت تقول بأن أنفاسها تضيق عندما ترى الأمواج وكأنها تغرق. وكأنها كانت تعلم بأنها ستموت بهذه الطريقة. أنا أعلم بأن الكثيرين – مثلي – فقدوا أغلى ما في حياتهم.. أشعر بألمهم ويعرفون ألمي، وسنساعد بعضنا البعض لكي نتجاوزه".

تركتني قصة أمل عاجزة عن الكلام، لأنني أعلم بأنّه ليس هناك ما يمكنني قوله أو فعله لأخفف من وطأة معاناتها، ولأنني شهدت التعاطف الذي أبدته مع الآخرين رغم حزنها العميق، فعانقتها آملةً أن تُشعرها هذه اللفتة البسيطة بوجود من يتعاطف معها قدر الإمكان.

صدمة عميقة

التقيت لاحقاً بإخلاص* وزوجها محمد اللذان نجيا كلاهما من الفيضانات. لكن إخلاص فقدت 21 من أفراد عائلتها – بما في ذلك شقيقها الأقرب إليها.

عندما دخلنا إلى مسكنهما المؤقت في المجمع، كان محمد يجلس على قطع الورق المقوى المكدسة على الأرض، ووراء ترحيبه اللبق بنا، كانت تعابير وجه مثقلةً بالصدمة. وبينما قصّت لنا إخلاص أحداث تلك الليلة، كان وقع الفاجعة والصدمة جلياً على محياها.  

قالت إخلاص لي: "لم يغمض لي جفن ليلة الفيضانات.. كنت أتأمل في البحر من شرفتي، وفجأة بدأت أسمع صوتاً مرعباً دون أن أعلم بما يجري. ظننته زلزالاً لكن الأرض لم تهتز.. وقبل أن أدرك ما يحدث، جرفتني أمواج عنيفة مع زوجي إلى الحمام.. تمسكنا ببعضنا البعض وقلت له ’محمد، إما أن نموت معاً أو ننجو معاً’. لم ننجب أطفالاً وهو جلّ ما لدي".

وصفت إخلاص الوضع وكأن أمواج تسونامي اكتسحت منزلهم ودمرت كل شيء قبل أن تتابع المياه طريقها نحو أسفل الوادي لتدمر المنازل الأخرى. تذكرت حينها بأن أمل استخدمت نفس العبارة، وبأن الناجيتين لم تشهدا دمار منزليهما وتخسرا عائلتيهما فحسب، بل كانتا شاهدتين على جرف السيول للمدينة بأسرها.

وأضافت إخلاص: "لم يتبق شيء من منزلي.. أنا أقدّر ما تلقيته من فرش وأدوات طهي لكنني أشتاق إلى منزلي ومفروشاتي ومطبخي.. لا أصدق أنني كنت أطالب محمد بالبحث عن منزل جديد أفضل وشراء مفروشاتٍ جديدة.. أنا مستعدة لبذل كل شيء لاستعادة منزلنا".

التعافي على المدى الطويل

كان لسماع هذه القصص ولما أبداه الناجون – مثل أمل وإخلاص - من قوة ووقار في وجه الفاجعة أثر عميق في نفسي ونفوس أفراد فريق عمل المفوضية في ليبيا، وزاد من عزمنا على فعل كل ما أمكن لمساعدتهم في الوقوف على قدميهم مجدداً؛ بما في ذلك توزيع مواد الإغاثة والأدوية لتلبية الاحتياجات العاجلة للسكان، وتقديم الاستشارات وسواها من أشكال الدعم النفسي الاجتماعي لمساعدتهم على التعافي من الصدمة.

كانت رؤية تلاحم السكان وتضافرهم لمساعدة المتضررين وبعضهم البعض وسط الظروف العصيبة من الأمور التي أشعرتني بالأمل خلال زيارتي. يشمل ذلك الجهود المذهلة التي يبذلها طاقم شركائنا المحليين في "الهيئة الليبية للإغاثة والمساعدات الإنســانية" – علماً بأن الكثيرين منهم كانوا من المتضررين نتيجة السيول. ورأيت بنفسي كيف كانت ملاك – وهي متطوعة ليبية يانعة – تعمل بلا كلل لتقديم الاستشارات الفورية للعائلات المنكوبة.

أشعر بألمهم ويعرفون ألمي، وسنساعد بعضنا البعض لكي نتجاوزه.

أمل

 

نازحون نتيجة الفيضانات ينتظرون الحصول على البطانيات ومواد الإغاثة الأخرى في مركز التوزيع في مدينة المرج، ليبيا.

نازحون نتيجة الفيضانات ينتظرون الحصول على البطانيات ومواد الإغاثة الأخرى في مركز التوزيع في مدينة المرج، ليبيا.

ستكون عملية معالجة الصدمة النفسية والخسائر البشرية الهائلة التي تسببت بها العاصفة المدمرة من العمليات الطويلة الأمد.

سوف تستخدم المفوضية الموارد الإضافية التي تلقتها لإطلاق خط ساخن يمكّن السكان من التحدث مع الاستشاريين في أي وقت، ولتوفير الخدمات المجتمعية بالتعاون مع الشركاء، حيث يمكن للسكان الوصول إلى مساحاتٍ آمنة ومشاركة تجاربهم وإيجاد المساعدة التي يحتاجونها. سوف يكون للترتيبات البسيطة – مثل مجموعات الدعم – أثر كبير في حياة الناجين مثل أمل وإخلاص – ليس فقط من حيث الحصول على الدعم، بل في مساعدة الآخرين على استعادة الأمل رغم الخسائر الهائلة التي تكبدوها.

ستواصل فرقنا التحدث مع السكان لتقييم احتياجاتهم وكيفية تغيرها بمرور الزمن، مما سيضمن أن توجه هذه الاحتياجات برامجنا بحيث تكون المساعدات التي نقدمها ملائمةً وفي الوقت المناسب.

انحسرت مياه الفيضانات في درنة لكن الفاجعة التي أصابت الناجين مثل أمل وإخلاص لم تنحسر، وعلينا ألا ندخر جهداً في مساعدتهم الآن.

*تم تغيير الأسماء لأسبابٍ تتعلق بالحماية.

علينا ألا ندخر جهداً في مساعدتهم الآن.

رنا قصيفي، مفوضية اللاجئين