انظروا من الذي يأتي إلى أوروبا
انظروا من الذي يأتي إلى أوروبا
أذكر بوضوح مشاعر الحرية المثيرة والوعد الذي تحقق نتيجة لـ"ثورة القرنفل" في موطني البرتغال عام 1974. كنت في الـ25 من عمري. خمسة عقود من الديكتاتورية قادتنا الى العجز الاقتصادي وإلى حروب إستعمارية مكلفة ولا يمكن الدفاع عنها. وفجأة صار هناك ديمقراطية، أو على الأقل احتمال معقول لذلك، جنبا إلى جنب مع إثراء إمكانية حصول المزيد من الاندماج مع أوروبا.
لم يكن نجاح الثورة البرتغالية أمراً حتمياً، فقد كانت هناك فترة طويلة من عدم الاستقرار السياسي والاضطراب الاجتماعي والخلل الاقتصادي، بل وكانت هناك جهود لخطف الثورة وجر البلاد إلى مسار مناهض للديمقراطية.
إن الدعم السياسي والمالي الهائل الذي تم تقديمه للبرتغال من قبل الدول الغربية، ولا سيما في أوروبا، إضافة إلى الحشد من جانب قادة أمثال مستشار المانيا الغربية هيلموت شميدت ورئيس الوزراء السويدي أولوف بالمه كان ضرورياً للبرتغال للتغلب على هذه التحديات والنجاح في بناء ديمقراطية حديثة.
وكما البرتغال في سبعينات القرن الماضي وأوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين في عام 1989 ، تشهد اليوم شمال أفريقيا تغيراً تاريخياً. وقد تم الإشادة بالثورتين في تونس ومصر نتيجة لإمكانات التحول التي يمثلونها. ولكن استجابة أوروبا هذه المرة كانت هزيلة وعلى مضض. فمعظم النقاش لم يكن يدور حول كيفية دعم الديمقراطية، ولكن حول كيفية إبعاد أولئك الذين يعرضون حياتهم للخطر بعبورهم البحر المتوسط على متن قوارب.
إن التحولات الديمقراطية في تونس ومصر حاسمة في تحقيق المثل العليا للديمقراطية والازدهار على المدى الطويل في المنطقة، إضافة للسلام والأمن العالميين. إنها أسباب كافية من أجل توفير نفس النوع من الدعم لتونس ومصر الذي استفادت منه البرتغال بعد ثورتها، ولكن هناك أكثر من ذلك.
لقد حصلت تونس ومصر على الأغلبية الساحقة من قرابة 740,000 شخص من الذين غادروا ليبيا منذ بدء الازمة في هذا البلد في شهر فبراير. وقد فعلوا ذلك بطريقة سخية جدا - فقد فتحوا لهم حدودهم وبيوتهم وقلوبهم. وخلال زياراتي المتكررة إلى الحدود التونسية، فقد تأثرت برؤية الأسر المحلية الفقيرة وهي تتقاسم ما لديها من القليل مع القادمين الجدد.
في البداية ، كان معظم من غادر ليبيا من العمال المهاجرين - تم إعادة معظمهم إلى بلدانهم الأصلية من قبل حكوماتهم، أو من خلال عملية الإجلاء الإنسانية الضخمة التي تمت بالاشتراك بين منظمتي، مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة.
ومع ذلك، فإن هناك نسبة كبيرة من أولئك الذين غادروا ليبيا لا يمكنهم العودة إلى بلدانهم الأصلية. هؤلاء هم لاجئون حقيقيون ويشملون بالطبع الكثير من الليبيين، ولكن هناك أيضا الصوماليين والاريتريين وغيرهم من المقيمين في ليبيا. تحتاج تونس ومصر إلى دعم أوروبا لأنها تتعامل مع احتياجات الحماية الدولية الحاسمة لهؤلاء الناس.
وفي ضوء اعتماد نظام القذافي على المرتزقة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فقد كنا قلقين بشكل خاص بشأن سلامة اللاجئين من هذه المنطقة الذين تعرضوا للذم بسبب انتمائهم لبلدان أولئك المرتزقة. تخيلوا مدى الصدمة بالنسبة للاجئ صومالي كان قد لجأ من جراء الحرب ليجبر بعد ذلك على الفرار مرة أخرى، مع عدم وجود احتمال واقعي للعودة إلى الديار.
حتى الآن وعلى حد قول الدول الأوربية فقد احترمت الدول التزاماتها بعدم إعادة اللاجئين من ليبيا الى بلادهم رغما عنهم. ولكن هناك حوالي اثنين في المئة فقط مما يقرب من مليون شخص والذين غادروا ليبيا منذ بدء الازمة قد قدموا فعلا إلى أوروبا. ويعود جزء من السبب وراء ذلك لكون الرحلة خطرة للغاية، إذ لا أحد يعرف على وجه اليقين كم عدد الذين غرقوا إلى الآن، ولكننا نقدر عدد الذين لقوا حتفهم حتى الآن بما يقرب من 1500 شخص.
إن اللاجئين الفارين من الصراع والاضطهاد في ليبيا يشكلون نسبة متزايدة من الأشخاص الذين يعبرون البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، الى ايطاليا ومالطا على وجه الخصوص. لقد حلوا إلى حد كبير محل المهاجرين التونسيين والذين كان معظمهم من الشباب والذكور ممن شكلوا الدفعة الاولى من المسافرين، والذين سعوا للاستفادة من حريتهم المفاجئة للبحث عن آفاق أكثر إشراقا في أوروبا.
هذا أمر مفهوم. ويمكن القول أن "أفضل ما يخدم المصلحة الذاتية الأوربية هو عن طريق السماح لهم بالبقاء نظرا للحاجة للعمال المهاجرين في أوروبا والتحويلات المالية التي يقوم بها المهاجرون لأسرهم لتعزيز اقتصادات بلدانهم.
للدول الأوروبية الحق في تحديد سياسات الهجرة وإدارة حدودها بطريقة مسؤولة، شريطة أن تقوم بذلك بما يتماشى مع التزاماتها الدولية، أي فيما يتعلق باللاجئين. وهذا أمر مهم جدا نظراً لأن طبيعة التحركات تتغير لتكون تحركات مؤلفة من اللاجئين أكثر مما تكون مؤلفة من المهاجرين.
ما زال يحدوني الأمل في أن تسترشد أوروبا بمصلحتها الذاتية المستنيرة وليس بمصالح ضيقة قصيرة الأجل، مدفوعة بالخوف أو الشعوبية. إذا فشل الوضع في ليبيا بالتحسن، فسوف يكون هناك المزيد من اللاجئين، وسوف يستمر معظمهم بالذهاب إلى تونس ومصر عن طريق البر وإلى دول أخرى مجاورة لليبيا. وإنني مقتنع بأن التقبل والسخاء اللافت لهذه البلدان لن يتضاءل. إن حماية الأشخاص الذين هم بحاجة هو العنصر المركزي في التقاليد العربية والإسلامية.
وبالنسبة لأولئك الفارين بحرا إلى الدول الأوروبية، فإن الاتحاد الأوروبي يمتلك أدوات قانونية ومالية محددة لضمان استقبال الأشخاص الذين يلتمسون اللجوء بطريقة كريمة وإنسانية، في ظل احترام كامل لحقوقهم.
ويمكن للبلدان في أوروبا وأماكن أخرى أن تتجاوز التزاماتها القانونية لحماية أولئك الفارين من ليبيا من خلال دعم المبادرة الشاملة لمفوضية الامم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين لإعادة التوطين. وهذا يوفر للاجئين، خاصة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فرصة للانتقال من تونس ومصر لدول ثالثة في العالم المتقدم.
وسوف يقاس التزام أوروبا بنجاح التحول الديمقراطي في شمال أفريقيا أولا وقبل كل شيء باستعدادها للاستثمار بشكل مجد في اقتصادات ومؤسسات بلدان "الربيع العربي"، ولكن أيضا بالإنسانية التي تبديها تجاه أولئك الذين أحدث نضالهم تغييراً جذرياً من هذا القبيل. وبكوني أوروبياً، فإنني أعتقد بأن حماية الناس الذين هم بحاجة، لايزال قيمة أساسية من تاريخ القارة وتقاليدها.
أنطونيو غوتيريس هو المفوض العام للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ورئيس وزراء البرتغال الأسبق.